قال: {
فتخرجون من الأصواء -أي: القبور- ومن مصارعكم؛ فتنظرون إليه وينظر إليكم} هذا هو الشاهد: {
فتنظرون إليه وينظر إليكم، قال: قلت: يا رسول الله! كيف ونحن ملء الأرض وهو شخص واحد ينظر إلينا وننظر إليه؟!} ولفظة: (شخص) واردة في الحديث الصحيح -كما ذكر
ابن القيم رحمه الله- {
لا شخص أغير من الله}.
ثم قال: {
أنبئك بمثل هذا في آلاء الله عز وجل}، أي: يضرب له مثالاً آخر من آلاء الله ومخلوقاته، كما ضرب له من قبل.
قال: {
الشمس والقمر آية منه صغيرة ترونهما ويريانكم ساعة واحدة، ولا تضارون في رؤيتهما}، فكل واحد ينظر إلى القمر ويظن أن القمر ينظر إليه وحده، وأنه هو وحده ينظر إلى القمر، حتى إن بعض العوام يقول: هذا القمر ملكنا، أما الآخرون -كأصحاب
الهند وغيرهم -فعندهم قمر آخر!! ومع ذلك فالواقع أنه واحد، وأن كل الناس يرونه، وكذلك لو أن القمر يرى لرأى كل الناس في وقت واحد.
وهذا مثال للتقريب لتتضح المسألة -ولله المثل الأعلى- فهؤلاء الصحابة الكرام أهل عقول صحيحة لا يعارضون بها النقل الصريح، فهم ليسوا من أهل الكلام الذين خربت عقولهم، وفسدت أذواقهم بتركهم للكتاب والسنة وإقبالهم على كلام اليونان، والعرب عموماً أمة فطرية، كما قال الإمام الشافعي رحمه الله، فيما نقله عنه الحافظ ابن رجب في كتاب فضل علم السلف على علم الخلف، قال: (ما فسد الناس واختلفوا إلا عندما تركوا منطق العرب ومالوا إلى منطق أرسطو طاليس )، ومنطق العرب هو: فطرتهم الواضحة.
فببدهية فهم الصحابة أنهم يرون الله ويراهم، مع اعتقادهم أنه ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ))[الشورى:11] :، ولا يوجد ثمة تعارض بينهما، وكذا سائر الصفات. قال: {ولعمر إلهك}، كأنه قال: (وإلهك)، فهذه اللام موطئة للقسم، ولفظة (لعمر) ليست بيمين، وإنما هي موطئة للقسم، كما في قوله تعالى: ((لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ))[الحجر:72]، فلم يقسم الله تعالى بالنبي صلى الله عليه وسلم، وإنما وطأ للقسم فقط.
وقوله: (إن الشمس والقمر آية منه صغيرة)، فقد كان الناس في الجاهلية -بل وفي الإسلام- قبل علم الفلك الحديث، كانوا يظنون أن القمر أكبر ما في السماء، وأن جميع الكواكب أصغر منه، والواقع أن القمر آية صغيرة، وهو تابع من توابع الأرض، وهناك نجوم وكواكب لا يعلم مقدارها إلا الله، مثل (الشِّعرى) الذي ذكره الله سبحانه وتعالى في كتابه فقال: ((وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى))[النجم:49]، والشعرى: نجم عظيم أكبر من الشمس، وكذلك يصف النبي صلى الله عليه وسلم القمر بأنه آية صغيرة، وهو كذلك بالنسبة إلى ملكوت السماوات.